في تجربة الغياب | قراءة في فلسفة هايدغر

هايدغر (1889 - 1976)

 

مقدّمة

في تقليد سنويّ، يجمع «منتدى إدوارد سعيد» عددًا من الطلّاب لمناقشة مواضيع يظنّونها مهمّة، أو على الأقلّ طالب واحد من الحاضرين، يعتقد أنّ ثمّة أهمّيّة للموضوع الّذي اختاره. ولذلك يعرضه في وقت ’مخصّص‘، ويجلس مقابل الحضور ليُسْمِعَهم ما يثبت تلك الأهمّيّة. ينمو خلال الإثباتات ما نسمّيه ’حرّيّة التعبير عن الرأي‘ ضمن سلسلة الإجراءات: أن تقول ما تفكّر فيه؛ أي عمليّة الملاءمة بين ما يدور في ذهنك والكلمات الّتي تحسبها تصوّره. وأن تلائم قولك حتّى يفهمه المستمع، أي أن تستخدم كلمات تتّفقان على معناها، إذ يبني العقل خلال عمليّات الملاءمة فضاءً يتخيّل المستمعين فيه، يحادثهم ويفترض ردود أفعال محدّدة منهم في حال قوله هذا أو عدم قوله ذاك. تنشأ، في هذين المكوّنين، عمليّات الحذف والظهور لعبارات ما، أو بناء ما يسمّى ’نظام الحقيقة‘ الّذي تعمل عليه محادثاتنا بشكل مستمرّ. هذان الإجراءان يشكّلان ’إمكان المحادثة‘، أو هما ’شروط ضروريّة‘. في المحادثة، ننقل ما نتصوّره عن الحقيقة ضمن بناء منطقيّ للحقائق أو ضمن استجماع مكوّنات ظاهرة ما.

هذا المبنى البسيط للغة، أي العبارة، ينفي ببداهته ما لم نقله، ويستحضر الكلمات في أصوات ضمن فضاء المستمعين.

عودة على حرّيّة التعبير عن الرأي، الّتي ظهرت في الملكيّة المطلقة في أوروبّا بشكل مكتوب في المراكز العلميّة والجامعات، يعود ذلك إلى عدم اكتراث الكاتب إلى رأي العامّة، أو توجّهه حصرًا إلى مجتمع العلماء. ويُعَدّ تقليد الكتابة في جريدة، أي الاهتمام برأي العامّة، ظاهرة حديثة النشأة بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة. ولهذا الأمر أهمّيّته في تقديم هايدغر محاضرته أمام ’مجتمع من العلماء‘، من علماء في الفيزياء والرياضيّات والمنطق، أي أمام أهل العلم في «جامعة فرايبورغ» في سنة 1929، مخاطبًا ومسائلًا إيّاهم.

 

تعريفات

الوجود في/ Being In: الحضور. يكتب هايدغر (1889-1976) في «الزمان والوجود»: "الامتداد الواسع للحضور يكشف عن نفسه على نحو حادّ، إذا ما أدركنا أنّ الغياب، والغياب بشكل خاصّ، يتحدّد بالحضور على نحو يصل إلى حدّ الغرابة". في نصّه «What is Metaphysics»، يحدّثنا هايدغر عن حضور الأشياء من خلال غياب نقيضها، ويحيلنا إلى حقيقة بسيطة مفادها: غياب الموضوع يؤكّد وجوده أوّلًا، فهو غائب. كما يحشره بالقوّة في خانة ’ما لا يُقَل‘، وهو كذلك لكونه ’غير موجود‘.

نقطة البدء عند هايدغر في البحث عن الغائب هي استجواب العلم، من حيث تعامله المقصور على الموجودات، وعدم اعترافه بما هو خارجها...

نقطة البدء عند هايدغر في البحث عن الغائب هي استجواب العلم، من حيث تعامله المقصور على الموجودات، وعدم اعترافه بما هو خارجها. بينما يحاجج هايدغر أنّ عمليّة التعاطي والاشتغال المحصورة في الموجودات، هي، بذاتها، وبشكل غير مباشر، تشكّل إمكان حضور العدم، أو تستدعي حضور ما لا يشتغل فيه العلم.

تُظْهِر أنظمة الحقيقة ‘الموجودات الّتي تكوّن موضوع الحقيقة‘، ولا تتعامل إلّا معها. على الموجودات أن تظهر، أن تنجلي، تتكشّف، خلال عمليّة بناء هذا النظام. هذا موقف العلم الّذي يحصر نفسه في الانشغال ضمن ما يظهره لنا الوجود، الّذي نشأ – أي الموقف - عن انزياح الإنسان، واختياره الحرّ، نحو التعامل مع الموجودات، ولا شيء دونها. يقول الفيلسوف إنّ مسألة ’استمراريّة العلم‘ ممكنة من خلال الموجودات، وخارجها هو لا شيء. في هذه العبارات يقف هايدغر عند قولنا ’لا شيء‘، ليؤشّر على حضوره في عمليّة نفينا له على المستوى اللفظيّ، أي العبارة، في استدعاء عمليّة النفي لموضوعها.

من بين ’أنظمة الحقيقة‘، يفكّر هايدغر بالعلم بوصفه عمليّة نفي للنفي. تستند المجادلة على تعامل العلم، بمختلف أصنافه وحقول معرفته، الطبيعيّة والتحليليّة والدقيقة، مع الموجودات. لا يعرف العلم سوى ’مواضيع المعرفة‘ الّتي تتحقّق إمكانيّتها في وجودها الملموس، وقدرة الإنسان على إحصائها، وفرزها إلى أنواع وأصناف، كما تقديرها في وحدات قياس أو مستويات طاقة وإنتاج معيّنة. ما يقوله هايدغر أنّ عمليّة النفي، أو عمليّة تأطير مجال المعرفة، تفترض وجود شيء ما خارج مجالها، تتميّز هي عنه.

يستند هايدغر في عمليّة التأطير إلى مفهوم الهويّة الّتي لا تمارس ذاتها خارج التفاعل مع ما هو مختلف عنها، ويضيف أنّ وجود الهويّة، في حدّ ذاته، يفترض عمليّة تأطير ونفي لما هو خارجها.

 

الكينونة والحالة الوجوديّة

Da sein: الكينونة/ Being there. في «تاريخ الكذب»، يكتب جاك دريدا مقتبسًا هايدغر بأنّ الكينونة "تحمل في داخلها إمكانيّة ظهور الخداع والكذب"، ويضيف: "كينونة الكلام والمنطوق تحمل في داخلها إمكانيّة ظهور الخداع". تظهر الكينونة في ما يقع وراء تمثيلات الموجودات.

الحالة الوجوديّة/ Attune. لا تنكشف فيها كلّ الموجودات بأشكال وأوجه مختلفة فحسب. في حضورنا في هذه الحالات، وتمثيلاتنا من خلالها، نكتشف أنفسنا أيضًا. ونقصد فيها نمط العيش اليوميّ المستمرّ والدائم من تلقاء ذاته، ليست شعورًا أو مشاعر أو حالات نفسيّة، أي مشتقّة من جملة عوامل وأحداث محدّدة، بل هي حالات يتحدّد وجود الإنسان فيها. على سبيل المثال: أن يُعاش الخوف في جملة من الإجراءات والعوامل نحن نعرف تمامًا معناها. في الخوف نهرب إلى العالم، نهرب خوفًا من شيء معرّف يمكن تحديده في مجموعة من المكوّنات، نهرب في اتّساع أو تقارب بيننا وبين ما نخافه، ثمّة إدراك للعمليّة، وثمّة إدراك للتهديد الّذي يشكّله هذا الشيء وما يمكن أن يطاله بعد ضغط المساحة بيننا. نحن نخاف من، لنقل الأسد، في حالة حضوره ينمو لدينا شعور عدم الأمان، وثقة في قدرته على التغلّب علينا. ولعدم الإطالة أقول إنّه في حالة الخوف، فإنّ السبب معلوم ومُدرَك. أو في حضور الحبّ، أي أن تسمع "أنا أحبّك" من حبيب ما لتبدأ ترى الحبّ في كلّ مكان، وتبدأ بالشعور بذاتك كما لم تشعر بها من قبل.

تبدأ الذات هنا بالتحقّق والتمظهر على نحو يضفي دهشة أو رعشة ما في قلب المحبّ. في مقابل هذه الحالات الّتي "نعرف وندرك علّتها"، يكتب هايدغر عن الحالات الوجوديّة، حالات الرعب والقلق، الّتي لا مكان فيها لهذه التعريفات أو الإدراك. إنّها مسألة مستمرّة ودائمة، وليست لحظيّة أو حدثيّة، على الرغم من تكوّنها في سلسلة أحداث تغطّي حياة الإنسان ووجوده على هذه الأرض. نحن لا نعرف بشكل محدّد مصدرها، إذ لا يوجد شيء معيّن يمكن تأطيره وتعريفه تعريفًا عقلانيًّا للإشارة عليه بوصفه معنًى أو مصدرًا لها، رغم هوسنا الدائم في محاولة إنتاجه. إنّها أنماط العيش اليوميّة الّتي ينعدم فيها معنًى محدّد لمشاعر وأنشطة ذهنيّة.

في الخوف نهرب إلى العالم، نهرب خوفًا من شيء معرّف يمكن تحديده في مجموعة من المكوّنات، نهرب في اتّساع أو تقارب بيننا وبين ما نخافه، ثمّة إدراك للعمليّة، وثمّة إدراك للتهديد...

يتشابه، في جانب محدّد، استخدام هايدغر لمفردة ’الرعب‘ واستخدام زيجمونت باومن لمصطلح ’الخوف السائل‘؛ فالخوف السائل "متفرّق ومنتشر وغامض ومشتّت ومتقلّب وعائم، من دون عنوان واضح، ومن دون سبب واضح؛ وعندما يستحوذ علينا من دون سبب معقول، وعندما نشعر بالخطر الّذي نخافه في كلّ مكان، لا يمكننا أن نراه في أيّ مكان".

 

التجربة

يكمن إمكان معنى الوجود الإنسانيّ في التجربة، أي في ما طرأ على الإنسان وعايشه خلال وجوده على هذه الأرض من أحداث. في محاضرته، يحدّد هايدغر الوجود على أنّه وجود المتكلّم وزمانه، ويقصد الحالات الّتي يضع الإنسان نفسه فيها، يقتحمها ويتفاعل معها خلال اقتحامه لها، ليكوّن الأحداث الّتي تشكّل حاضره ووجوده، أي تاريخه.

لا يكون معنى الوجود هنا في تعريفه على أنّه بناء نظريّ ما، بل هو الخوض والتجربة فيه، في ما يكوّنه من موجودات، أي عدم إمكان صياغة الحدث وفهمه بالكلمات. يعمل الفهم، ضمن ما يعمل عليه، على عزل مواضيعه خلال فهمها، عزلها عن محيطها وتمييزها عنه من خلال مكوّناته الداخليّة. يفلت الحدث من هذه العمليّة لوقوعه، أي لاشتماله على عنصر المفاجأة. إنّه يقع في الحياة ويقتحمها، ينفتح على التجربة ويقاومها، وينتشر في كلّ مكان، ويمتدّ على ’عمر الإنسان‘. بهذا، تنتفي إمكانيّة ’عزله عن محيطه‘، وبالتالي فهمه.

في تلك المقولة "لا يكون معنى الوجود هنا في تعريفه على أنّه بناء نظريّ ما، بل هو الخوض والتجربة فيه وفي ما يكوّنه من موجودات"، ينتمي هايدغر إلى تيّارات فلسفيّة تعتبر التجربة في المطلقات هو الإمكان الوحيد لتعريفها. الإيمان، مثلًا، من الممكن تعريفه في عمليّة الإيمان ذاتها. الإيمان هو أن تؤمن، دون إمكان بناء نظام أبستمولوجيّ، يمكن من خلاله تصوير الإيمان ضمن مجموعة من التعريفات والقوانين المترابطة بشكل منطقيّ.

هنا تنشأ مشكلة، أو تناقض مفهوميّ: كيف يمكننا تجربة غير المجرّب، أو العدم، من حيث هو الغائب دائمًا عن أدوات فهمنا للحياة أو الطبيعة؟

مفردة ’الحدث‘ لا تعني تمامًا إمكان فهم هذه الإجراءات الّتي تكوّنه، بل هو بالضبط ما لا نستطيع تسميته إلّا بكونه ’حدثًا‘. لا نحمل في ذهننا سوى هذه الكلمة لتأطير ما يحدث لغويًّا، وغالبًا ما نحاول إرفاقه بتواريخ لتوضيح الإجراءات الّتي تشكّل ’تاريخ حدوثه‘، أو نضفي عليه كلمات معيّنة توضّحه وتكشف لنا – ولو بشكل جزئيّ - ما يمكن التعامل معه بصفته مكوّنات ضروريّة (أي ما يمكن استيعابه ذهنيًّا بصفته شيئًا لا يمكن الحالة أن تكون دونه).

 

سؤال العدم

يكتب سؤال العدم بهذه الصيغة: كيف يتكوّن العدم؟ أو كيف يصبح العدم ممكنًا؟ إنّ العدم حالة وجوديّة إنسانيّة، ممّا يعني أنّ هذا السؤال موجّه إلينا، إلى أنفسنا، نحن بداخله وهو عنّا، عن حالتنا الإنسانيّة، وهو موجّه إليها يبحث عن جوابه.

لكن يجب أن ننتبه إلى الفارق الجوهريّ الآتي: لا تعمل الإجابة على تقديم تعريف بسيط على شاكلة ’العدم هو كذا وكذا‘، بل على الإجابة أن تأتي من خلال التجربة، أي عبر حضور ’الباحث في موضوع بحثه‘. من جهة أخرى، يكتب هايدغر السؤال بواسطة الأداة ’كيف‘ وليس ’لماذا‘، وهي أداة سؤال في علّيّة وجود الأشياء. سؤال الـ ’كيف‘ يفترض الوجود ويعدو نحو الفهم، دون سؤال في العلّيّة. هذا لكون العدم يتحقّق بذاته، إنّه يحمل هذه القدرة والقوّة على الحضور تلقائيًّا، لا يُؤَسَّس على شيء، بل هو القوّة المؤسِّسَة للأشياء الأخرى.

 

حدود القدرة الإنسانيّة

يعمل النفي على نفي كلّيّانيّة الموضوع أو الموجودات. هو النفي المطلق، أي الكلّيّ، للموجودات. وليس نفي جزء منها، أو عمليّة نفي مستمرّة ومثابرة تصل في نهايتها إلى نفي الكلّ. بل هو ’إجراء‘ واحد يبدأ بالسيطرة على الحالة الوجوديّة برمّتها. في هذا السياق، ينشأ الإشكال الآتي: كيف يمكننا التعاطي مع كلّيّانيّة الموجودات؟ كيف يمكن لكائنات محدودة، لناحية العقل وقدراته مثلًا، ونهائيّة، أي أنّنا موجودون بناءً على ما نقوم به، وتاريخيّة، أي أنّنا كائنات تتطوّر وتنمو وتتعلّم من التجربة، أن تنفي كلّيّانيّة الموجودات؟

إنّ العدم حالة وجوديّة إنسانيّة، ممّا يعني أنّ هذا السؤال موجّه إلينا، إلى أنفسنا، نحن بداخله وهو عنّا، عن حالتنا الإنسانيّة، وهو موجّه إليها يبحث عن جوابه...

بهذا المعنى، في تجربة العدم، يتوجّب علينا أن نصل ’حدّنا الإنسانيّ‘، أي استنفاد تلك القدرات في مثل هذه الحالات. وكما يعلم الجميع، فإنّ الحدّ الإنسانيّ المألوف هو الموت، أو أنّ الموت هو بالتأكيد شكل محدّد من أشكاله.

يمكننا التلخيص من خلال القول إنّ التجربة معناها عيش الحالة الوجوديّة بالتجربة، ونضيف، أثناء التجربة لا ينشأ تمايز بين كيان الإنسان والحالة الّتي يعيشها، بل تطابق تامّ. مثلًا، شعور الإنسان بالملل، أي أن يتملّكه الملل وجوديًّا، لا يعني هذا شعور الملل من كتاب، أو فيلم أو شخص ما، بل تحوّل الملل إلى جزء عضويّ في تعاطينا مع محيطنا الاجتماعيّ والحياتيّ أيضًا. يتحوّل إلى أداة يُقاس كلّ شيء في نسبته إليها. يضفي معناه على ما نقابله ويفقده معناه الخاصّ. في هذا ’الكلّ‘ في كلّ شيء، تكمن إمكانيّة التعاطي مع الكلّ، أي حلّ الإشكال الآنف الذكر. يبحث هايدغر عن تمثيلات ’الكلّ‘ في حالات محدّدة.

لا يدور الحديث عن إنتاج الوجود نظريًّا من خلال نسق فلسفيّ أو أيديولوجيّ، ومن ثَمّ نفي هذا الإنتاج والوصول إلى العدم، أي أن نقول إنّ الوجود هو ’كذا وكذا‘، وننفي هذا الوجود على المستوى النظريّ؛ إذ إنّ حلّ الأمور نظريًّا لا يعني حلّها في الواقع. ما يقوله هايدغر أنّ هذا الهدم ليس أصيلًا (Genuine)، كما أنّها تُظْهِر العدم على أنّه لا-شيء.

 

قلق دائم

يعني القلق ألّا تعرّف موضوعه، أن يُنْفى ما نألفه عن الأشياء، والعيش ضمن إمكان تغيّرها وتبدّلها الدائم. تعمل هذه السيولة على الدخول إلى مشاعر الطمأنينة والهدوء، وتدميرها. لا يوجد علاقة سببيّة أو منطقيّة يمكن من خلالها تفسير الشعور، أو الإشارة إلى مصدره. هذا المبنى المفهوميّ للشعور، يحمل في طيّاته نفيًا للموجودات القائمة؛ إذ أيٌّ منها يحمل طاقة تفسيريّة أو تحليليّة أو معنًى للحالة الوجوديّة القائمة. يبحث المعنى، ضمن جملة ما يبحث عنه، عن شيءٍ ما محدّد ليتكوّن من خلاله. في نفي المعنى، يصعب، بل يستحيل، الشعور بالموجودات. المعنى شرط ضروريّ لوجود الموجودات، ولا نقصد هنا الوجود المجرّد، بل الوجود في نسبته إلينا.

يثبت القلق لنا أنّ وجودنا لا يقتصر على شكله العضويّ، بل هو ممتدّ إلى عالمنا الداخليّ، الغائب عن عين الآخرين، ولا يشعر به أحد سوانا. في حالات القلق الوجوديّة، ستشعر بالعالم على أنّه أداة تفسير من خلالك، أو أنّ كلّ الموجودات في العالم هذا تتصرّف الآن بموجب قلقك. عندها يبدأ القلق بالتوسّع ليشمل الموجود في كلّيّته. في هذا التشتّت والتوسّع والشموليّة، يتضاءل المعنى وينعدم، ويضفي القلق ذاته على تلك المعاني ملغيًا إيّاها. بهذا السياق، يكتب هايدغر عن "عدم الوثوق بالموجودات، إذ تُنْفى في هذه الحالات الوجوديّة"، وأنّنا، في المقابل، لسنا كباقي الموجودات، الّتي تنعدم في القلق، ونبقى نحن ليتكثّف حضورنا.

 

الدهشة

إنّ الكينونة قرضيّة الوجود الأساسيّة، هي شرط وجود الموجودات. ويظهر هنا الشرط في شكلين مختلفين، في كونه إمكانًا للمشروط، وفي سبقه لما هو شرط له. في حالات العدم ينكشف الـ ’هناك‘ (There) في الـ ’الوجود هناك‘ (Being There)، حيث تظهر ذاتيّة فريدة، إذ تخرج الذات من مجالها الخاصّ إلى مجال كينونتها الحيويّ - أي ترابطها مع ما هو حولها وجملة الظروف الّتي تكوّنها - وتعود إليه بعد ’التجربة‘، لتكتشف ذاتها من جديد. في هذا النمط من التجارب، أي في تجربة العدم، أو تجربة معنًى واحد في جميع الموجودات، تحقّق الذات ذاتها من خلال الخروج والعودة والتجدّد. ما ورائيّة الطبيعة الإنسانيّة - ما يغيب عنّا، ما لم ننزح نحوه، ما لم نختره - تتحقّق في وجودنا داخل هذه الكينونة، مجال أو فضاء خارج عن الطبيعة.

في حالات القلق الوجوديّة، ستشعر بالعالم على أنّه أداة تفسير من خلالك، أو أنّ كلّ الموجودات في العالم هذا تتصرّف الآن بموجب قلقك هذا. عندها يبدأ القلق بالتوسّع ليشمل الموجود في كلّيّته...

الحالة الوجوديّة الأخيرة هي الدهشة، أو حالات الاصطدام بالموجودات وولادة الأسئلة عنها وحولها، والتعامل مع الموجودات بوصفها غير مفهومة ضمنًا، ليست ثابتة وغير قابلة للتجاهل. أصل الدهشة من وجود الأشياء يكمن في العدم. عندما ترى أشياء وتتفاجأ لمجرّد وجودها، وكأنّك في دهشتك هذه تفترض عدم وجودها، أو تفترض العدم في شكله الأوّل.

 

الإنسان يعني الفلسفة

ينهي هايدغر محاضرته بإثبات الادّعاء التالي: إذا كان الإنسان كانت الفلسفة، ممّا يعني أنّ وجود الفلسفة ملازم للوجود الإنسانيّ، وممّا يعني أيضًا أنّ الوجود المحض للإنسان لا يجعله إنسانًا.

نحن بواسطة الفلسفة نؤنسن وجودنا عبر تجربة جوانبه وحالاته المختلفة، ونسائل هذا الوجود حول ماهيّته وحضوره فينا أو حضورنا فيه، أو عن هذا التشابك بين حضورنا فيه وغيابنا عنه. نحن نعرف أنّنا لن نقدّم إجابة عن سؤالنا هذا، لكنّنا نسأله أملًا منّا في تحرّي حضورنا وسط هذا العالم.

 


 

جمال مصطفى

 

 

 

من كفر كنّا في فلسطين، دَرَسَ الفلسفة والفيزياء، وهو عضو «جفرا – التجمّع الطلّابيّ» في «جامعة تل أبيب»، يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة.